فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و{مِنَّا} خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي {مَا مِنَّا} أحد إلا له مقام معلوم.
وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أوفى مطرد وهذا اختيار الزمخشري.
وقال أبو حيان {مِنَّا} صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم.
وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد، وقوله سبحانه: {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غيرًا إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وقال غيره: إن فيه أيضًا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا أحد إلا أحد له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره، وفيه أن فيه اعترافًا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرًا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال، نعم قيل يجوز أن يقال: القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرًا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة، وفيه نظر.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة، وقال ناصر الدين: أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وقيل: الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي، وفي البحر داعين للمؤمنين، وقيل: صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدًا وجعلت لنا ترتبها طهورًا إذا لم نجد الماء» وأخرج هو أيضًا وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم» وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة، وقيل: أي القائلون سبحان الله.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أنه قال: المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والظاهر ما تقدم، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز وجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه، وقال ناصر الدين: لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في إن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائمًا من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى: {وَمَا مِنَّا} [الصافات 164] إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها.
وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف {وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا} [الزخرف: 45] الآية قال ابن العربي: ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض.
وقال الجلال السيوطي: لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل به بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئًا المقحمات انتهى فلا تغفل.
{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ} إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
{لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)} أي كتابًا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى:
{لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم.
والفاء في قوله تعالى: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}.
{فَكَفَرُواْ بِهِ} فصيحة مثلها في قوله تعالى: {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الاذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علمًا من الذين تقدموا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به، ولا يخفى بعده. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} عطف على جملة {ليقُولونَ} [الصافات 151] أي شفَّعوا قولهم: {ولَدَ الله} [الصافات 152]، فجعلوا بين الله وبين الجنّ نسبًا بتلك الولادة، أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسبًا.
و{الجنّة} الجماعة من الجن، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رَجْلَة، الطائفة من الرجال، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سَروات الجن، أي من فريقِ نساء من الجن من أشراف الجن، وتقدم في قوله تعالى: {أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جِنة} في سورة [الأعراف: 184].
والنسب: القرابة العَمودية أو الأُفقية أي من الأطراف والكلام على حذف مضاف، أي ذوي نسب لله تعالى وهو نسب النبوءة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى، أي جعلوا لله تعالى نسبًا للجِنّة وللجنة نسبًا لله.
وقوله: {بينه وبين الجِنَّة} يجوز أن يكون حالًا من {نَسَبًا} أي كائنًا بينه وبين الجنة، أي أن نسبه تعالى، أي نسله سبحانه ناشىء من بينه وبين الجن.
ويجوز أن يكون متعلقًا ب {جعلوا} أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسبًا له، أي جعلوا من ذلك نسبًا يتولد له، فقوله: {بينه وبين الجنة نسبًا} هو كقولك: بين فلان وفلانة بنُون، أي له منها ولها منه بنون، وهذا المعنى هو مراد من فسره بأن جعلوا الجن أصهارًا لله تعالى، فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثير، لأن هذا الإِطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغتررْ به.
ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوّة والبنوّة، وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} إعادةً لما تقدم من قوله: {ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله} [الصافات 151- 152] ومن قوله: {أم خلقنا الملائِكَة إناثا وهم شاهِدونَ} [الصافات 150].
ومن ذهب إلى أن المراد من {الجِنَّةِ} أصل الجِنّة وهو الشيطان وأن معنى الآية: أنهم جعلوا الله نسيبًا للشيطان نسب الأخوة، تعالى الله عن ذلك.
على أنه إشارة إلى قول الثَّنَوية من المجوس بوجود إله للخير هو الله، وإله للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إله الخير يَزْدَانَ وإله الشر أَهْرُمُنْ وقالوا: كان إله الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إله الشر هو أهرمُن وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله:
قال أناسٌ باطلٌ زعمهم ** فراقبوا الله ولا تزعُمُنْ

فَكَّر يزدانُ على غِرة ** فصيغ من تفكيره أهرمُن

وهذا الدين كان معروفًا عند بعض العرب في الجاهلية من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفًا بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات، ولأن الجِنّة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم.
وجملة {ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون} معترضة بين جملة {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} وبين جملة {سُبحانَ الله عمَّا يصِفُونَ} [الصافات 159] و{جعلوا بينه}. إلخ.
حال والواو حالية، وضمير {أنهم} عائد إلى المشركين أو إلى الجِنة، والوجهان مرادان فإن الفريقين معاقبان.
والمحضَرون: المجلوبون للحضور، والمراد: محضَرون للعقاب، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد، والغالب في فعل الإِحضار أن يراد به إحضار سوء قال تعالى: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} [الصافات 57] ولذلك حذف متعلِّق {محضرون} فأما الإِتيان بأحد لإِكرامه فيطلق عليه المجيء.
والمعنى: أن الجن تعلم كذب المشركين في ذلك كذبًا فاحشًا يُجازَون عليه بالإِحضار للعذاب، فجعل {محضرون} كناية عن كذبهم لأنهم لو كانوا صادقين ما عذبوا على قولهم ذلك.
وظاهره أن هذا العلم حاصل للجن فيما مضى، ولعل ذلك حصل لهم من زمان تمكنهم من استراق السمع.
ويجوز أن يكون من استعمال الماضي في موضع المستقبل لتحقيق وقوعه مثل {أتى أمر الله} [النحل: 1]، أي ستعلم الجِنة ذلك يوم القيامة.
والمقصود: أنهم يتحققون ذلك ولا يستطيعون دفع العذاب عنهم فقد كانوا يعبدون الجن لاعتقاد وجاهتهم عند الله بالصهر الذي لهم.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)}.
أتبعت حكاية قولهم الباطللِ والوعيدِ عليه باعتراض بين المستثنى منه والمستثنى يتضمن إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه، فهو إنشاء من جانب الله تعالى لتنزيهه، وتلقينٌ للمؤمنين بأن يقتدوا بالله في ذلك التنزيه، وتعجيب من فظيع ما نسبوه إليه.
{إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}.
اعتراض بين جملة {سبحان الله عمَّا يصفون} [الصافات 159] وجملة {فإنكم وما تعبدون} [الصافات 161] الآية، والاستثناء منقطع، قيل نشأ عن قولهم: {إنهم لمُحضرونَ} [الصافات 158] والمعنى لكن عباد الله المخلصين لا يُحضَرون، وقيل نشأ عن قوله: {عمَّا يَصفونَ} [الصافات 159] أي لكن عباد الله المخلصين لا يَصفونه بذلك، وقيل من ضمير {وجعلوا} [الصافات 158] أي لكن عباد الله المخلصين لا يجعلون ذلك.
وهو من معنى القول الثاني، فالمراد بالعباد المخلصين المؤمنون.
والوجه عندي: أن يكون استثناءً منقطعًا نشأ عن قوله: {سبحانَ الله عمَّا يصفونَ} [الصافات 159] فهو مرتبط به لأن {ما يصفون} أفاد أنهم يصفون الله بأن الملائكة بناته كما دل عليه قوله: {ألربك البنات} [الصافات 149].
والمعنى: لكن الملائكة عباد الله المخلصين، فالمراد من {عباد الله المخلصين} الملائكة فهذه الآية في معنى قوله: {وقالوا اتخذ الرحمان ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون} [الأنبياء: 26].
{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)}.
عُقب قولهم في الملائكة والجن بهذا لأن قولهم ذلك دعاهم إلى عبادة الجن وعبادة الأصنام التي سوّلها لهم الشيطان وحرّضهم عليها الكهانُ خدَمَةُ الجنّ فعقب ذلك بتأييس المشركين من إدخال الفتنة على المؤمنين في إيمانهم بما يحاولون منهم من الرجوع إلى الشرك، أو هي فاء فصيحة، والتقدير: إذا علمتم أن عباد الله المخلصين منزّهون عن مثل قولكم، فإنكم لا تفتنون إلا من هو صالي الجحيم.
فيجوز أن يكون هذا الكلام داخلًا في حيز الاستفتاء من قوله: {فاستفتهم ألربك البنات} [الصافات 149] الآية.
ويجوز أن يكون تفريعًا على قوله: {وجعلوا بينه وبين الجنة نسبًا} [الصافات 158] الآية.
والواو في قوله: {وما تعبُدُونَ} واو العطف أو واو المعية وما بعدها مفعول معه والخبر هو {ما أنتم عليه بفاتِنينَ}.
وضمير {أنتُمْ} خطاب للمشركين مثل ضمير {إنكم}.
والمعنى: أنكم مصطحبين بالجن الذين تعبدونهم لا تَفتنون أحدًا.
ووجه ذكر المفعول معه أنهم كانوا يموهون للناس أن الجن تنفع وتضر وأن الأصنام كذلك وكانوا يخوّفون الناس من بأسها وانتقامها كما قالت امرأة الطفيل بن عَمرو الدوسي لما أسلم ودعاها إلى الإسلام «ألا تخشى على الصِبية من ذي الشّرى؟ قال: لا» فأسلمتْ وكانوا يزعمون أن من يسبّ الأصنام يصيبه البرص أو الجذام.
قال ابن إسحاق: لما قدم ضمام بن ثعلبة وافدُ بني سعد بننِ بكر على قومه من عند النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: باسَت اللاتُ والعُزى.
فقالوا: يا ضمام اتق الجذام اتق الجنون.
ولا يستقيم أن تكون الواو عاطفة لأن الأصنام لا يسند إليها الإِفتان.
وجوّز في الكشاف أن يكون قوله: {وما تعبدونَ} مفعولًا معه سادًّا مسدّ خبر إن، والمعنى: فإنكم مع ما تعبدون، أي فإنكم قرناء لآلهتكم لا تبرحون تَعبدونها، وهذا كما يقولون «كل رجل وضيعتَه» أي مع ضيعته، أي مقارن لها.
و{ما تعبدون} صادق على الجن لقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100] لأن الجن تَصدر منهم فتنة الناس بالإِشراك دون الأصنام إذ لا يتصور ذلك منها قال تعالى: {ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون اللَّه فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء} [الفرقان: 17] الآية.